في ذكرى إِستشهاد السيِّد صادق آل طُعمة وأَولادهِ الثَّلاثة؛ في حضرةِ العالِم والمُربِّي والأَديب والخطَّاط

في ذكرى إِستشهاد السيِّد صادق آل طُعمة وأَولادهِ الثَّلاثة؛
في حضرةِ العالِم والمُربِّي والأَديب والخطَّاط

نــــــــــــــــــــــــــــزار حيدر

الكتابةُ عن الشَّهيدِ شرفٌ، وأَشرفُ من ذلكَ عندما تكتبُ عن شهيدٍ هوَ مِن أُسرةٍ دينيَّةٍ وعلميَّةٍ وأَدبيَّةٍ عريقةٍ خرَّجت قافِلةً طويلةً من العُلماءِ والأُدباءِ والمُفكِّرينَ والمُؤَلِّفينَ في مجالاتٍ عدَّة، وأَقصد بهِ الشَّهيد السيِّد صادق آل طُعمة، الذي هوَ واحدٌ من هذهِ القافلةِ المُباركة.
ولقد شرَّفني إِبنهُ البار [بقيَّةُ السَّيف] السيِّد حسن آل طُعمة عندما طلبَ منِّي أَن أَكتبَ عن والدهِ الشَّهيد كمُشاركةٍ مُتواضِعةٍ في الكتابِ الذي يؤَرِّخ لحياتهِ ويُخلِّد دورهُ الإِجتماعي والأَدبي والجِهادِ بالكلمةِ ومسيرتهِ الطَّويلة في طلبِ العلمِ وعلى المُستويَينِ الدِّيني والأَكاديمي، وحتَّى استشهادهِ [وأَبنائهِ الثَّلاثة] [الشُّهداء السُّعداء السيِّد ضياء والسيِّد مُرتضى والسيِّد علي]على يد نظامِ الطَّاغيةِ الذَّليل صدَّام حسين في [١٩٨٢/٨/٢٨].
ولقد تميَّزت قافلةُ شهداء العراق بأَمرَينِ ينبغي أَن تلتفتَ لهُما الأَجيال دائماً، أَلا وهُما؛
أَوَّلاً؛ شموليَّة الهويَّة والإِنتماء، وتنوُّع المُستويات العلميَّة والإِجتماعيَّة.
ففي هذهِ القافِلة المُباركة فُقهاء ومراجِع وعُلماء وأُدباء وأَطبَّاء ومُهندسين، وفيها شيخُ العشيرة والأُستاذ في الجامِعة والمدرسة والطَّالب والكاسِب والعامِل وصاحِب المِهنة الحُرَّة، وفيها الرَّجُل والمرأَة والشَّاب والطِّفل، والجدَّة والأُم والزَّوجة والأُخُت والبنت، والجد والأَب والزَّوج والأَخ والولَد.
فيها الحركي وغَير الحركي والحزبي وغَير الحزبي ومن مُختلفِ الخلفيَّاتِ والإِنتماءاتِ.
إِنَّها قافلةٌ مقدَّسةٌ ومُباركةٌ وعظيمةٌ بكُلِّ معنى الكلِمةِ، ما يُشيرُ ويُؤَكِّد بأَنَّ الجهادَ ضدَّ الظُّلم والإِستبداد والطُّغيان وسياسات تكميم الأَفواه وسحقِ الحقُوقِ والكرامةِ الإِنسانيَّةِ لم يكُن في يومٍ من الأَيَّامِ حِكراً على فِئَةٍ إِجتماعيَّةٍ دونَ أُخرى، أَو على الرِّجالِ دونَ النِّساء، أَو على الكبارِ دونَ الصِّغارِ.
إِنَّها مسيرةُ التَّضحية من أَجلِ حياةٍ كريمةٍ بلورَتها كربلاء ولخَّصتها عاشوُراء ومنهجَها الحُسين السِّبط (ع).
ثانياً؛ لا يتمايز الدِّين والوَطن عندَ العراقيِّينَ، فكِلاهُما مُقدَّس، وكِلاهُما رسالةٌ، وكِلاهُما قضيَّة، يُضحُّونَ من أَجلهِما بالتَّساوي وعلى قدمٍ وساقٍ، يُلبُّونَ نداءهُما عندَ الحاجةِ ويُدافعُونَ عنهُما عندَ الضَّرورة ويُضحُّونَ من أَجلهِما بلا تمييزٍ، فإِذا عرَّض الحاكِم الظَّالم بدينهِم وقِيمهِم وعقائدهِم وشعائرهِم لم يألوا جُهداً في التَّضحيةِ من أَجلِ حمايتِها والذبِّ عنها من عبثهِ وحرُوبهِ، كما حصلَ ذلكَ مثلاً عام ١٩٧٧ عندما تعرَّضت سِياسات نظامِ الطَّاغية لمُعتقداتِ العراقيِّينَ في زيارةِ الأَربعينَ للحُسينِ السِّبط (ع) في العشرِينَ من صفرٍ.
فعلى الرَّغمِ من قساوةِ التحدِّي الذي استخدمَ فيهِ الطَّاغوت كُلَّ أَنواعِ الأَسلحة الفتَّاكة وكُلَّ ما أُوتي من قُوَّةِ بطشٍ وقتلٍ وتعذيبٍ وسجنٍ وأَحكامٍ بالإِعدامِ، إِلَّا أَنَّ العراقيِّينَ لم يبخلُوا بتضحياتهِم فقدَّمُوا الشُّهداء الأَبرار من أَجلِ هذا التحدِّي الذي مسَّ دينهُم وتعرَّض لمُعتقداتهِم.
وعندما وقفَ العراقُ في مُواجهةِ تحدِّي الإِرهاب عام ٢٠١٤ لم يتردَّد العراقيُّونَ في الإِستجابةِ لنداءِ الوطنِ المجرُوحِ الذي تردَّد صدى استغاثتهِ بفتوى الجِهاد الكِفائي التي أَصدرها المرجعُ الأَعلى الإِمام السيِّد علي السِّيستاني، فأَرخصُوا كُلَّ شيءٍ من أَجلِ حمايتهِ والحيلولةِ دونَ أَن تُسيطِرَ عليهِ جماعات والعُنف والإِرهاب التي عاثَت فساداً في المناطقِ والمُحافظاتِ التي سيطرَت عليها وعلى رأسِها مُحافظة نينَوى.
إِنَّ العِراقَ كوطنٍ يختلِفُ عن كُلِّ الأَوطانِ الأُخرى، فهوَ الدِّينُ والمُعتقَدُ والتَّاريخُ والرَّمزُ، إِنَّهُ عِراقُ عليٍّ والحُسينُ (ع) يحتضِنُ مراقِدَ [٦] من أَئمَّة أَهلُ البيتِ الأَطهار (ع) فكيفَ يُمكِنُ التَّمييزِ بينَ الدِّينِ والوطن وقتَ النُّصرةِ؟! إِنَّهُ وطنُ البصرةِ والكوفةِ والنَّجفِ الأَشرفِ والكاظِمَينِ وسامرَّاء.
ويغورُ الوطنُ في عُمقِ التَّاريخِ لنستحضِرَ بهِ حضاراتِنا وعواصِمِها، ذي قار وبابل ونينوى وأَربيل.
هذا هوَ العراقُ الوطن فلا تلومُونَ العراقيِّينَ إِذا ضحُّوا لحمايتهِ من عبثِ الطُّغاة الظَّالمينَ والفاسدينَ.
وشهيدُنا المُحتفى بهِ السيِّد صادق آل طُعمة هو واحدٌ من رموزِ قافلةِ الشُّهداء الأَبرار الذينَ ضحُّوا بالغالي والنَّفيس من أَجلِ دينهِ ومُعتقداتهِ ووطنهِ الذي عبثَ بهِ النِّظام الديكتاتوري على مدى أَكثر من ثلاثةِ عقودٍ، ذاقَ خلالَها العراقيُّونَ الأَمرَّينِ.
والشَّهيدُ رمزٌ من رموزِ الأَدب والثَّقافة، وكانَ ممَّن أَسَّس أَو ساهمَ في تأسيسِ المُنتدياتِ الأَدبيَّةِ والثقافيَّةِ في مدينةِ كربلاء المُقدَّسة على وجهِ التَّحديد والتي وُلِدَ ونشأَ وترعرعَ فيها.
ونتذكَّرُ صَوتهُ الجَهوريُّ وهوَ يخطبُ ويُلقي الكلِماتَ والقصائدَ في المهرجانِ السَّنوي الذي كانَ يُقامُ في مدينةِ كربلاء المُقدَّسة في ذكرى مَولدِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في الثَّالث عشر من رجَب، بحضُورِ الوفودِ من مُختلفِ دُوَلِ العالَمِ، وفيها العُلماء والفُقهاء والأُدباء ومشاهيرِ العلمِ والأَدبِ واللُّغةِ والتَّاريخ ومِن مُختلفِ الأَديانِ والمذاهبِ.
ولقد اشتهرَ شهيدُنا ببيتَي الشِّعرِ الَّذَينِ نظمهُما بالبديهةِ عندما رأى المُقدَّس الميرزا مهدي الشِّيرازي يُحدِّث زعيم الطَّائفة المرجعُ الأَعلى يومها السيِّد مُحسن الحكيم الذي زارهُ في بيتهِ في كربلاء المُقدَّسة قائلاً؛
بدرانِ في أُفُقِ الهدايةِ أَشرقا*أُنبيكَ بالتَّفصيلِ والإِيجازِ
هذا هوَ المهدِيُّ يسمعُ مُحسِناً*وترى الحكيم يُحدِّثُ الشِّيرازي
كما ساهمَ في الكتابةِ والنَّشرِ في العديدِ من المجلَّاتِ والصُّحُفِ داخل وخارجِ العراق.
وفوقَ كُلَّ هذا وذاكَ فإِنَّ شهيدنا المُحتفى بهِ هو أَحد أَبرز الخطَّاطينَ، وهوَ مِن رموزِ الخطِّ العربي ومشاهيرهِ، فلقد اشتهرَ بقُدرتهِ الفائِقة وسيطرتهِ النَّادرة على رسمِ الحرفِ العربي بشَكلٍ يسحرُ القلُوب ويُحاكي الصُّورة بشَكلٍ قلَّ لهُ نظيرٌ، فخطَّ بأَناملهِ نُسخاً من القرآن الكريم، كامِلاً وبأَجزاء، كما كتبَ بخطِّهِ الرَّشيق والجميل العديد من الزِّيارات والأَدعية.
مارسَ شهيدُنا التَّعليمَ أَكثر من عقدَينِ من الزَّمن إِيماناً منهُ بأَنَّ القلم والدَّواة هُما أَقدس أَدوات النُّهوض الحَضاري، وهُما أَدوات التَّربية والتَّعليم والتَّزكية وبِناء الشخصيَّة السَّليمة للإِنسان الفَرد والإِنسان المُجتمع.
لقد أَقضَّ الشَّهيدُ السَّعيدُ مضاجع النِّظام الشُّمولي الديكتاتوري عقوداً عدَّةً بنشاطهِ المُتميِّز، فلم يكُن مِنْهُ إِلَّا أَن يعتقِلهُ في يومِ الجُمعة المُصادف [١٩٨٠/٨/١٦] ويُصدِرُ عليهِ حُكماً بالإِعدامِ في [١٩٨٢/٨/٢٨] مع ثلاثةٍ من أَبنائهِ كما ذكرنا آنِفاً، ظنّاً منهُ أَنَّ إِعدام الشَّهيد جسداً سيعدِم فكرهُ وأَثرهُ وتاريخهُ، ناسياً أَو مُتناسياً قولَ الله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} وقولهُ تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتًۢا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
ثُمَّ صودِرت أَموالهُ المنقُولة وغَير المنقُولة بتاريخ [١٩٨٢/٨/٣١].
أَعدمَ الطَّاغوتُ الشَّهيدَ جسداً ليحيا أَثرهُ نهجاً ومنهجاً يُعلِّم الأَجيال معنى الحياةِ بعزٍّ وكرامةٍ كما قالَ جدِّهِ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ} والتي عمادُها العلم والمعرِفة والأَخلاق والأَدب والتَّزكية كما يقولُ تعالى مُتحدِّثاً عن فلسفةِ البعثةِ النبويَّةِ الشَّريفةِ {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
فسلامٌ على الشَّهيدِ وأَبنائهِ البرَرة، وسلامٌ على الشُّهداءِ، وسلامٌ على سيِّد الشُّهداء الحُسين السِّبط (ع) الذي استلهمُوا منهُ قِيَمَ الإِيمانِ والصَّبرِ والحياةِ بعزٍّ والتَّضحيةِ من أَجلِ الحياةِ ما بعدَ المَوتِ ليعيشَ فيها خالِداً {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍۢ مُّقْتَدِرٍ}.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار