التشظي يطال جميع الكتل السياسية العراقية ..الاسباب والتداعيات

التشظي يطال جميع الكتل السياسية العراقية ..الاسباب والتداعيات

محمود الهاشمي

تشهد التجربة السياسية بالعراق تشظياً وانقساماً حاداً بين جميع الكتل السياسية “الشيعية والسنية والكوردية” بعد ان مضى على التجربة اكثر من عشرين عاماً بدءً من عام 2003 وحتى اليوم من عام 2024.
الكتل السياسية بتنوعها القت باللائمة على شخصيات في داخل الكتل محملين اياهم مسؤولية التشظي والانقسام او على الكتل الاخرى معتقدين بالتآمر والتخطيط عليها من اجل اضعافها او اضعاف تمثيل ودور “الطائفة” او “العرق” في العملية السياسية ، كما لاتخلو من “تهم” توجه الى دول خارجية تسعى للنيل من هذه الكتلة السياسية او تلك، وهذه الدول المعنية محصورة –تقريباً- بين امريكا وايران ودول الخليج وتركيا.
التجربة السياسية بالعراق تشكلت وفق ثلاثة ثوابت هي “تدخل المحتل الامريكي و المبدأ الطائفي او العرقي .ودستور مكتوب على عجالة” .
الشخصيات والاحزاب المشاركة في العملية السياسية وان اختلفت عناوينها ومسمياتها وشعارتها الا انها تتمثل بـ
1-احزاب “المعارضة” للنظام البائد ولها تاريخ جهادي وكفاحي طويل.
2-احزاب “حديثة” تشكلت بعد عام “2003”
الجامع بين الاحزاب هذه انها حديثة العهد بادارة السلطة وتنقصها الخبرة، كما ان “المحتل” قد تدخل كثيرا في بنية التجربة السياسية فافقدها تاثيرها وشخصيتها، ناهيك ان النظام الذي تم اعتماده “نظام ليبرالي” غربي لم تالفه الساحة العراقية ولا العربية عموماً من قبل، او ولد “مشوها”.
“النظام الليبرالي الغربي” جعل الاحزاب السياسية “العريقة” وصاحبة التاريخ الجهادي الطويل لم تستفد من “عقيدتها” التي آمنت بها ودافعت عنها لعقود طويلة، ولم تستطع ان تفرضها كعقيدة حاكمة للبلد.
لم يقف التشظي في حدود الكتل السياسية التقليدية “الشيعية، الكوردية ، السنية”، انما سبق ذلك تشظياً في الاحزاب السياسية نفسها، فلم يعد حزب واحد لم يشهد ذلك التشظي…
ان الكتل السياسية العراقية وصلت الى حالة من “الجمود” وغير قادرة على تطوير ادائها ولا حركتها وحيوتها، حيث غلبت عليها “الشيخوخة”..
ولم تجد حزباً قد انتج قيادات جديدة او طور في ادبياته، انما باتوا يتعاملون دون ادنى “استراتيجية سياسية” ومع تعاقب الدورات التشريعية فقد الشعب ثقته وهبط منسوب المشاركة بالانتخابات بكل عناوينها ، بعد ان شاع الفساد الاداري والمالي وتدنت الخدمات وتدهور الاقتصاد.
ان تشظي الكتل السياسية العراقية بات حتمياً وهو دليل انهيارها وعدم تمكنها من الوقوف بوجه التحديات التي تعصف بالبلد سواء كانت الداخلية منها او الخارجية.
قد يرى البعض ان “الطائفية او العرقية” التي تبنتها الاحزاب الحاكمة بالعراق وراء هذا “التشظي” على اعتبار ان هذين العنوانين “الطائفية والعرقية” تؤدي الى تفكك البلد وتخلف اجواء من التعصب بين ابناء الوطن الواحد، والحقيقة ان كل دول العالم لم تغب عنها هذه العناوين وان مراجعة سريعة تريك ان جميع الاحزاب التي تشكلت في اوروبا حملت بعداً دينياً او طائفيا او عرقيا، ومازالت اعلام الكثير من الدول مرسوماعليها الصليب ، وان هذا الحزب السياسي الغربي جمهوره من هذه الطائفة او الدين او العرق، لكن الفرق ان “الجامع الوطني” و “المصالح المشتركة” وتطور الاحزاب ورقيها في مواجهة التحديات منحها حيوية وشخصية متميزة واطال في امد وجودها.
ما يمر به العراق من تشظٍ لكتله السياسية ” الشيعية السنية الكودرية” يشبه جداً ما تمر به التجارب السياسية بعموم البلدان العربية ، حيث منذ ان تحررت هذه البلدان من نير الاستعمار العثماني والغربي لم تستطع قوى التحرر والاحزاب التي تناوبت على ادارة الدولة ان تواصل تجربتها بل سرعان ما تكلست وشاعت الانقلابات العسكرية الديكتاتورية، فسارع الاستعمار متمثلاً بقوى الاستكبار ان يشتمل عليها ثانية ويوقعها تحت سطوته وهيمنته، حيث وحتى الان لاتوجد تجربة سياسية في بلد عربي واحد ناجحة من المحيط الى الخليج، فهي اما محمية امريكية مثل “دول الخليج” او “فوضى” مثل العراق ولبنان وسوريا ومصر وتونس..الخ.
باعتقادي ليس “العلة” بالعقائد التي حكمت بهذه الدول، سواء كانت اسلامية او قومية او مادية انما ما زال “العقل العربي” عاجزاً ان يستفيد من هذه “العقائد” ومازال ينتظر من يصنع له “القرار”.
ان مجرد نظرة الى الاحداث الجارية في الارض المحتلة في غزة وتداعيات ” معركة طوفان الاقصى التي انطلقت في (7/10/ 2023) و الموقف العربي “المرتبك “مع ان “القضية الفلسطينية” تعد احدى القضايا المصيرية للشعوب العربية.
ان عدم اتخاذ “قرار حاسم” من قبل الدول العربية بشان “معركة طوفان الاقصى “رغم الضغط الجماهيري ينم عن “الشتات والضياع” الذي تعيشه الامة، فيما انتصرت للقضية الفلسطينية دول وشعوب في اقصى الارض مثل “جنوب افريقيا” و”البرازيل” وهناك دول عربية لها حدود بمسافة “350” كم مع الاراضي الفلسطينية مثل “الاردن” .لا احد يشك ان العمق الاستراتيجي لمحور المقاومة الاسلامية في المنطقة هو “الجمهورية الاسلامية الايرانية” فهي الدولة التي دعمت وساندت ومولت وسلحت فصائل المقاومة رغم المسؤولية الكبيرة عليها امام الارادات الدولية فيما تتنصل “الامة” عن هذه “المهمة” ..ان “العجز العربي” الذي حول الدول العربيةالى مجرد “بقرة حلوب “لدول الاستكبار الغربي جاء بسبب فشل “الاحزاب السياسية” التي حكمت هذه البلدان ولم تستطع ان تنهض بتجربة ناجحة، فالاحزاب القومية والمادية والليبرالية التي نلعنها كل يوم كانت ومازالت وراء نهضة شعوب عديدة يشار لتجربتها بالبنان…
ان ما تشهده الكتل والاحزاب السياسية من انقسامات وتشظيات لاعزاء عليها، فهو امر متوقع ومحتوم وكما يقول المثل “الحمل المائل لايصل الى هدفه”..
حتى اللحظة لم تفكر الكتل والاحزاب السياسية العراقية ان تغير منهجها وسلوكها فقد ادمنت “التراجع” و “الهزيمة” امام الواقع دون ادنى استفادة من اصحاب الفكر والراي والمشورة الذين طالما وجهوا انتقادهم لهذه الكتل السياسية وطالبوهم باعادة انتاج تنظيماتهم وافكارهم وادائعم لكن دون جدوى …
ان مجرد نظرة الى الاعداد الهائلة من الكوادر والمشرعين والاكاديميين الذين فروا من البلدان العربية ومنها العراق الى دول الغرب لنقرأ ارقاماً مفزعة، حيث ان هناك “86”الف عالم مصري في الخارج يدرسون في المؤسسات العلمية في امريكا واوروبا فيما مصر تعيش “الفاقة” وان اكثر من نصف الشعب المصري دون مستوى الفقر.
ناسف ان دولنا العربية رغم ثرواتها الهائلة باتت بيئة طاردة للكفاءات المتنوعة، وشاهدنا في العراق الدكتور البروفسور “الياس كوركيس” الذي كان سببا في نهضة الصين العظيمة، وحين عاد الى بلده العراق بعد عام “2003” وجده فوضى فغادر الى بريطانيا.
صحيح ان العالم يشهد تحولاً نحو نظام دولي جديد يخرج فيه الولايات المتحدة الامريكية من تفردها بعد صعود دول اخرى مثل الصين وروسيا والهند وجنوب افريقيا بالاضافة الى دول اخرى في الطريق الى ذات الهدف، ولكن السؤال ما دور العرب في هذا التحول؟، الجواب ان الدول العربية منقسمة الى نوعين فاما محميات امريكية مثل دول الخليج او دول اخرى تعيش الفوضى، المؤسف ان دول الخليج سخرت اموالها الهائلة لتطيل من عمر التفرد الامريكي على حساب قضايا الامة العادلة.
ليس غريبا ان نرى العالم يطالب اسرائيل بوقف الحرب بسبب الابادة الجماعية لشعب غزة، فيما دول خليجية تسهل ايصال البضائع الى اسرائيل!!.
الدول العربية التي تعيش “الفوضى” انتجت تجربتها السياسية، احداث “الربيع العربي “والتي باتت اشبه ما تكون بـ”الدول الميتة”، ويبدو انه مخطط اعدته الدوائر الاستخبارية الغربية مسبقا والعراق جزء من هذه المنظومة العربية..
ان اقدم حزب سياسي “كوردي” بالعراق هو الحزب الديمقراطي الكوردستاني والذي تاسسس عام “1946” م، وقد خاص كفاحاً مريراً مع الحكومات المتعددة، وحين استلم ادارة السلطة في “اقليم كردستان” فشل واشتد خلافه مع “الاتحاد الوطني الكردستاني” الحاكم في محافظة السليمانية، وهذا يتمدد على جميع الاحزاب التقليدية العراقية التي وجدت نفسها اخيراً عاجزة في منح نفسها “الحيوية” للاستمرار والنجاح.
هناك مشكلة ان الفشل الذي يعصف بالتجربة السياسية بالعراق يوافق المنهج الامريكي الذي يرى في هذه “الفوضى” وسيلة لاختراق جميع الاطراف السياسية والتلاعب بمصير البلد، اما الجارة ايران فقد حاولت جاهدة ان توقف التجربة السياسية بالعراق وفق ثلاث معادلات
1-اخراج المحتل الامريكي من العراق وابعاده عن اي تاثير سياسي لمستقبل البلد.
2-لما كان عدد “الشيعة” بالعراق هو الغالب فلا بد ان تكون لقادة واحزاب الطائفة التاثير الاكبر بادارة الدولة وصناعة القرار السياسي.
3-ان يكون العراق جزء من المشروع الدولي الجديد المناهض للتفرد الامريكي.
لم تستطع امريكا ان تخضع العراق الى سياستها وان تجعل من قاعدة الانطلاق والتوجيه للمنطقة كما كان مخططا له حين شيدوا اكبر سفارة بالعالم بوسط بغداد يديرها “3” الاف موظف، كما لم تستطع ايران ان تصنع تجربة سياسية بالعراق توافق الاهداف التي اوردناها وذلك لعدم نضوج الاحزاب السياسية القادرة على النهوض بمشروع تنموي وسياسي كبير، واحدة من ادواته المواجهة مع الولايات المتحدة الامريكية.
كيف لايران ان تساعد العراق في انضاج تجربته السياسية؟
لما نكون قد اسلمنا ان لايران التاثير الاكبر في التجربة السياسية بالعراق بعد عام “2003” ولها الدور في دعم العراق في مسالتين اسياسيتين الاولى طرد الاحتلال الامريكي والثاني طرد الارهاب، كما ان اغلب الاحزاب المعارضة للنظام البائد كانت قد هاجرت الى ايران هربا من النظام ومن المفروض انها على الاقل تاثرت بالتجربة السياسية الاسلامية الايرانية وبعقيدتها ورموزها ، خاصة الاحزاب في الطائفة الشيعية..

انشغال ايران لطرد المحتل الامريكي من العراق ومحاربة الارهاب جعلها تهتم بالبعد العسكري دون البعد المدني “السياسة والاقتصاد” وتعاملت مع التجربة السياسية بالعراق كـ”واقع حال” دون تدخل منهجي يحدد الاخطاء ثم يعالجها باعتبار ان شعب العراق هو المسؤول عن اختيار المرشحين عبر صناديق الاقتراع.
بلا شك ان هذا التوجه فيه احترام لتجربة سياسية يعود لبلد اخر، ولكن يحتاج العراقيون التعاون في امور اخرى مثل:
1-التعاون في اعداد قيادات شابة قادرة على ان ان تثبت الحيوية في نسيج الاحزاب الحاكمة وانتاج شخصيات ورموز غير تقليدية.
2-التعريف بالتجربة السياسية الايرانية حيث ان 90% من العراقيين لايملكون معلومات عن ادارة الدولة في ايران فيما لدى اغلب العراقيين ثقافة عن التجربة السياسية بالولايات المتحدة والغرب.
3- الاعلام الايراني غير واصل للعراقيين لانه غارق بالمحلية ،لذا لايملك العراق ثقافة جيدة عن المنجز الايراني ولا المراكز الثقافية والجامعات والمراكز الصحية والسياحية، ولا عن النشاطات السياسية والاقتصادية والعلمية.
4-لم تحاول المؤسسة الدينية في ايران ان تترك تاثيرها على المؤسسة الدينية بالعراق وابقوها في بعدها الرسمي فقط.
5-لم يستطع الاعلام الايراني ان يكسب ود الكثير من الشيعة بالعراق مثلما فشل في الوصول الى الطوائف الاخرى رغم الامكانيات الهائلة التي يمتلكها.
6-لاتوجد مشاركات ومساهمات وتفاعل بين المؤسسات الثقافية العراقية والايرانية.
هذه النقاط وغيرها جعلت التجربة السياسية بايران “غريبة” عن التجربة السياسية بالعراق مع ان اكبر الاحزاب السياسية بالعراق هي الاحزاب الدينيية.
من هذا نفهم ان علينا جميعا ان نسعى من اجل انتاج عملية سياسية جديدة “بالعراق موازية” حتى تاخذ مكانها في المستقبل ، دون ان نترك حجر العملية السياسية بالعراق يتدحرج دون هدي، ولا شك عملية الانتاج هذه تحتاج الى استراتيجية عمل وتخطيط، لكنها ليست “صعبة” لان الظروف المحلية والدولية تساعد مع ذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار