جزاء

جزاء

مروة جمال مهدي

لا زلت أتذكر منظرها الرث وعودها الممصوص يرتجف أمامي، لم تتعدَ الثالثة عشر، ساقها القدر إليّ، أقبلتْ نحوي ودنتْ مني بفؤادٍ مجروحٍ وعينين ترويان بدموعهما الأرض.
لا دار تسكنها ولا مأوى تلجأ إليه، أوجاعٌ فقط جَنتها من حربٍ طاحنةٍ لم ترأف بصغيرٍ أو كبير، سألتها:
– ما بك؟
أجابت:
– وحيدة.
أشفقت عليها بعدما أخبرتني أنّ أهلها أموات؛ قررت أخذها إلى منزلي؛ كي أضمد جراحها وأحميها من عثرات الأيام

ذات مساء مرضتْ مرضًا شديدًا، جلستُ جوارها تاركة دراستي، أحدث نفسي” لم أعد حرة منذ عرفتها؛ قامت بأسري في كلماتٍ ودمع، بسطت نفوذها عليّ في إحدى أطوار حياتي، فما نهاية هذا؟
وصل إلى والدي خبر رسوبي؛ ضاق ذرعًا، لكنّي لم أكترثْ للأمر،

في أحد المساءات وجدتها تدقق النظر إلى عقد جديد اشتريته لي، شعرت بالحزن عليها، سألتها باسمة:
– هل أعجبك؟ ضعيه على عنقكِ إن شئتِ.
– حقًا!
سرعان ما تبدل حالها وهي واقفة أمام المرآة، أمتلأت سعادة وسرورًا…

في نهار مطير، رأيتها شاردة الذهن عبوسة، كأنها غير راضية!
حال بينها وبين بهجتها مسافات طويلة، حدثت والدي؛ قرر أن يأخذنا للتنزه لعلّها تستعيد سعادتها لكنها تمنعت الذهاب معللة ذلك بإهارق يسكنها…
قضيت وقتًا جميلًا، عدت متلفهة لأروي لها التفاصيل، وقبل أن ألتقط أنفاسي:
-خولة، خولة.
لم أجدها على سريرها!
هرعت إلى والدي وهو ما زال يصعد السلم، أفزعته ملامحي، توقف:
– ماذا دهاكِ؟ لِمَ تبدين هكذا؟
– ليست في الغرفة،
تُرى هل شعرت بالوحشة بعد خروجنا فخرجت؟ لكنها لا تعرف أحدًا؟!
بعدما اتّجه والدي نحو غرفته سمعت أصوات أمتعة ترتطم بالأرض وصرخة مدوية صعدتُ إثرها مصعوقة، أجلتُ عيني في المكان فرأيتها واقفة والنقود ملقاة على الأرض، سكنتني الحيرة من شيطان الغدر الذي تقمصها، بصوت متقطع تخنقه العبرات:
– كيف أردتِ لصدورٍ ضمّتكِ أن تنزف؟
لم تجبْني بحرفٍ واحد، سقطتُ في أحابيل خيبة الأمل، تكورت على جسدي، أضم صدري المثخن بالجراح، حبست أحلامي في إحدى زوايا الغرفة الواسعة التي احتضنتنا معًا ورسمنا فيها أسس مستقبل آمن لها،
اقتطعت مصلًا من دمي، وعهدًا على روحي، سقيت فسائل فل في فؤادها لتجنيه وردًا من مهجتها…
اكفهر المكان، بهت بعيني أضواؤه، فقد والدي رؤية الأمن من حوله، شحبت سكينتي من فرطِ الذعر، ساعات من تفكير قاطعتني عنه صفعة من ذاكرتي التي أعادتني إلى الوراء، عندما امتدت يد مجهول إلى صندوق والدي، اختلس ما بداخله، انقلبت الأمور رأسًا على عقب؛ راود الظنُّ أفراد عائلتي أنّها السارقة، يومها استبسلت في الدفاع عنها استبسال لبوة على أشبالها مقسمة ألّا أبرحَ مكاني حتى أكرّم نفسي التي كانت تمنعني مرارًا من الإقدام على شيء يمسّها بسوءٍ…
خولة التي زرعت الابتسامةَ في ثغرها ومآقيّ تذرفُ الألم، ورممت داخلَها وأنا بأمسِّ الحاجة إلى ذلك
فطمتها عن كل عاطفة، وأعدتها كما قالت لي في أولِ لقاء.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار