غنيمتي

غنيمتي

محمد نبيل

كان المطعم مزدحمًا بمشاعر الحب التي خالطت روائح الأطعمة الملونة، الناس هناك أزواجٌ سعداء راميي نظرات الشفقة على من كان أمامه كرسي، وكنتُ أنا من أُولي الحظ الذين تنعموا بعينين براقتين من أمامهم، أٌطالع تفاصيلها كأنها صفحات كتاب لا نهاية لجماله، إنني وبلا شك أكثرهم حظًا وأعظمهم رزقًا فقد خرجتُ منتصرًا من معركة هي الأشدُّ ضراوة والأكثر شراسة من بين كل المعارك، حاملاً غنيمة كنتُ أحلم بالظفر بها.

قبل المعركة تسلحتُ بمشاعري وارتديتُ درع حبي متجهًا إلى العمارة التي كانت تسكن فيها.. عمارة شامخة ذات سبع طوابق، وكانت هي في الطابق الأخير كأميرات “ديزني ” تنتظرني – أميرها – لأنقذها، استوقفني الحارس قائلاً:
إلى أين المتجه يا سيد؟
-إلى الطابق السابع.
-هل أنت متأكد من هدفك؟
-بلا شك، لِمَ الاستغراب؟
-لأنّ كل طابق يسكنه أناس مختلون نفسيًا مضطربون عقليًا، بعضهم على حافة الجنون وبعضهم قد جُنَّ بالفعل، أبوابهم مفتّحة دائمًا ولا ضيوف لهم.. وستقابلهم جميعًا لأن المصعد معطل.
لم أهتم لتحذيره وانطلقتُ في سلالم تلك العمارة المخيفة، كان طابقها الأول ذو رائحة تقتل كل مستقبل عصبي في أنفي وكل خلية إدراك في عقلي.. رأيتُ دخانًا أخضرَ يخرجُ من تحت بابه الأسود الذي يحمل علامة التحذير النووي.
أسرعتُ في تسلقي متجنبًا الرائحة واصطدمتُ برجل كان متجهًا إلى ما أهرب منه، في وجهه نصف قناع وعلى جسده نصف ملابس تغطي الجزء الذي لم يحترق من جسده، رمقني بنظرة حزينة حتى كادت عيناه تدمع بينما أنا واصلتُ زحفي.

عند وصولي إلى الطابق الثاني كانت هناك أصواتٌ تحمل ترددات صوتية شيطانية تخترق الرأس وتُتلف الدماغ، يرقصُ ساكنيها خارج الطابق غير آبهين بالحفاظ على ما تبقى من عقولهم وحيائهم! شبّانٌ وشاباتٌ لا يُقيدهم دين ولا يضبطهم شرع.
-أنت لا تختلف عنهم بشيء بل وتزيدهم فسوقًا.
قالها عجوز وسط تلك المعمعة كان يرقص معهم وتشبه عيناه عينا صاحب ذلك القناع ثم أضاف:
إنك في الأعماق لتودُّ مشاركتهم والاستسلام عن مواصلة زحفك، فهذه ما يحب قلبك وترغب به نفسك. هربتُ من هناك إلى الطابق الثالث خائفًا راجيًا أن أُنقذ أذني من الانفجار.
ارتميتُ في السلالم لألتقط أنفاسي وأشحذ من همتي، كانت السلالم قد تغير شكلها لتصبح حلزونية ممتدة بلا نهاية، يتخللها سوادٌ قاتمٌ لا نقطة ضوء فيه.. راودتُ نفسي بالعودة والاستسلام لليأس من أجل النجاة بحياتي.
قاطع مقطوعة يأسي ضحكاتها وارتسام ابتسامتها، دفء كلماتها وحُسن صوتها، ثم لمع ذلك الضوء الطفيف ليشدّ عزيمتي إلى الصعود على تلك السلالم الدائرية التي شارفتُ على تجاوزها لأُنهيَ بذلك الطابقين الثالث والرابع وصولاً إلى الخامس.

أيها الخائن اللعين، ما الذي ارتكبته بحقك لتفعل هذا بي؟ ما ذنبي أنا؟
أين الخيانة في شرع قد أحله الله لنا؟
-هيا يا امرأة، افتحي الباب.
-لا باب سيُفتح لكَ يا ناكر الجميل وكافر العشير، وعدتني أنني وحدي سأصبح لك أبد الآبدين، إذن من هذه المزيونة بجانبك؟!
أَوَ كل الرجال منافقين في حبهم مثلك؟!
كان هذا ما استقبلت أذناي في بداية الطابق الخامس لتتعالى صيحات تلك المرأة بالسب والشتم ثم البكاء.
هل ستصبح في يوم ما كهذا الرجل المنكوب الذي أراد الترفيه عن نفسه؟

التفتُّ لمصدر الصوت فرأيتُ عجوزًا رثَّ الملابس حَسَنَ الهيئة، عينيه تشبهُ عينان رأيتهما كثيرًا في هذا الجحيم.
لا أظنّ أنك قادر على خيانتها كذلك الخائن اللعين.. فبعد كل هذا العناء لن تستطيع نفسك أن تشدك على استبدالها بأية أخريات.
لم أهتم لأمره كالعادة وواصلتُ تقدمي إلى الطابق السادس… إلى الجحيم الأسود.

كانت الدماء تغطي درجات الطابق فأصبحت كشلالات ” النياغرا” باللون الأحمر.. أصوات صرخات الأطفال تطغى على الطابق، ما الذي يحدث بحق الجحيم؟
هذا رأس طفل مقطوع تغطيه الدماء، وتلك يدٌ ما زالت تنزف جراء قطعها
يا الهي!
إن تلك المرأة تذبح الأطفال وهم ينظرون إليها وكأنهم ينتظرون دورهم أو كأنهم يتلهفون للأكل!
-انظر إلى حبنا أيها الأبله، هذا ما نجزاه جراء تركنا كل شيء والفرار من أجل حبنا، نحن نأكل أطفالنا من شدة الفقر.

قالتها المرأة وهي تضع يدًا مقطوعة داخل القدر.

إني لأفضّل أن آكل حتى الحجر في سبيل ما فررنا لأجله.. حبنا أبدي وسيظل خالدًا ولن يوقفه شيء.

زعزع هذا المشهد جوارحي وصعق إدراكي وقبض على فؤادي، أيفعلُ الحب والتضحية كل هذا؟!
أهذا ما أسعى إليه حقًا؟

لن تتوقف هنا بعد أن سعيت كل هذا السعي بالطبع.
كانت أصوات العجزة الثلاثة تقول هذا وهم يدفعونني الى أعالي الطابق السابع للقياها..

ما الذي قد يسرق عقلك في هذه الساعة حبيبي؟
” قاطع صوتها السحري سلسلة أفكاري شادًّا انتباهي إليها لأتأمل ما فزتُ به وما عانيتُ من أجله.

النهاية..

محمد نبيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار